0
الثلاثاء 21 تشرين الأول 2014 ساعة 00:04

عاشوراء.. صرخة الحقّ والحرّيّة

عاشوراء.. صرخة الحقّ والحرّيّة
عاشوراء.. صرخة الحقّ والحرّيّة
الحزن الرسالي:

وعندما يعيش الإنسان الحزن على قضيّةٍ مرّت عليها القرون المتقادمة، يحتاج إلى تسويغ هذا الحزن، ليكون عنصراً فاعلاً في حياته. فما معنى أن تبكي مأساةً حصلت في التّاريخ لأناسٍ تحبّهم من خلال عقيدتك وإيمانك وولائك، وأنت تعيش في أكثر من موقعٍ من مواقع حياتك آلاماً قد تكون أقسى من آلام كربلاء وفظائعها، وقد تكون وحشيّة ما يلقاه النّاس الّذين ترتبط بهم برابط العقيدة والولاء والإنسانيّة في الوقت الحاضر، أشدّ فظاعةً، فتشعر بأنّك تعيش اللامبالاة أمام حركة المأساة في الحاضر؟ إنّ ذلك يعني أنّ حزنك على الإمام الحسين(ع) ليس حزناً إنسانيّاً رساليّاً، ولكنّه حزنٌ انفعاليّ جامد لا يتحرّك ليثير فيك حزناً مماثلاً في كلّ صورةٍ شبيهةٍ بصورة كربلاء. لذلك لا بدَّ لنا من أن نفسِّر هذا الحزن لأنفسنا، حتى نوحي إليها بأنّ هذا الحزن ليس حزناً ذاتيّاً، بل هو حزن ينفتح على كلّ مواقع المأساة في الحياة، عندما تتحرَّك المأساة في ساحاتنا من خلال الّذين يضطهدون النّاس باسم الإسلام، ويقتلون النّاس على أساس التزامهم بالحريّة الّتي يُقدّمها الإسلام، أو من خلال التزامهم بالعدالة الّتي هي سرّ حركة الإسلام.

نحن نحبّ الإمام الحسين(ع)؛ نحبّه ونحبّ أخاه، ونحب أمّه وأباه وجدّه، والأئمّة المعصومين من ذرّيّته، وننتظر حفيده لنكون من جنوده، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً... نحبّه لأنّه أحبّ الله، ونحبّ آل بيته جميعاً لأنّهم أحبّوا الله. نحبّه ونحبّهم لأنّهم حملوا رسالة الله، ولأنّهم جاهدوا في سبيل الله، وأعطوا كلّ شيءٍ يملكونه لله؛ من هنا، فحبّنا لهم ليس ذاتيّاً، وليس حبّ قرابة، أو حبّ صداقة، ولكنَّه حبّ يفرضه علينا انتماؤنا إلى القاعدة التي انطلق منها الإمام الحسين(ع) وتحرّك في اتّجاهها.

لقد أراد الإمام الحسين(ع) الإصلاح في الأمَّة، لا الإصلاح في العائلة أو القرية، الإصلاح على مستوى الأمّة كلّها، لا على مستوى الوطن الّذي يتأطّر فيه الإنسان. لقد انطلق(ع) ليقول لنا: فكّروا في قضايا أمّتكم من خلال الإسلام الّذي حمله جدّي رسول الله(ص)، وأصلحوا ما فسد فيها، فكّروا في قضايا الأمّة، حتّى يكون كلّ واحدٍ منكم مسلماً يحمل همّ الإسلام كلّه، وهمّ المسلمين كلّهم.. لا تعيشوا عصبيّة الذّات أو العائلة أو الوطن أو عصبيّة القوميّة.. عيشوا رساليّة الإسلام في كلّ المساحات الإنسانيّة الّتي للإسلام فيها قضيّة، وللرّسالة فيها خطّ، وللإنسان فيها انفتاح.

عندما نفكِّر في حجم الأمّة، سينطلق تفكيرنا في قضايانا الصّغيرة على أساس مقارنتها بالقضايا الكبرى. فإذا ما أردنا أن نتحدّث عن قضيّة الحريّة ـ على سبيل المثال ـ فيجب أن نثيرها على أساس علاقتها بقضيّة الحريّة في العالم الإسلاميّ والعالم بأسره، بحيث لا نجعل خطّ الحريّة حركةً قد نربح فيها شيئاً ويخسر العالم الإسلاميّ من خلالها أشياء. بمعنى أنّ هناك ضرورةً للتّكامل مع العالم الإسلاميّ في هذا المجال، حتّى نفهم دورنا، تماماً كما قال رسول الله(ص): "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسّهر والحمّى"، تماماً كما هو كلّ عضوٍ في جسدك لا يطلب الرّاحة والشّفاء لنفسه إلا من خلال راحة بقيّة الأعضاء. فلا يمكن للإنسان أن يعالج يده إذا كان المرض يدبّ في كلّ أجزاء جسمه، كما لا يمكن أن يُعالج يده بدواءٍ ينقلب إلى داءٍ في جميع أجزاء جسمه، بل لا بدَّ ـ حين أخذ الدّواء ـ من التحقّق من أنّ هذا الدّواء لن تنتج منه مضاعفاتٍ سلبيّة على الأجزاء الأخرى في جسد الإنسان، ولهذا قد يذهب شخصٌ ما إلى بعض الأطباء، فيقولون له: إنّ هذا الدّواء يفيد في معالجة المرض، ولكنّه يضرّ المعدة، أو القلب، أو جهازاً عصبيّاً، أو ما إلى ذلك.. فلا بدَّ من البحث عن دواءٍ يشفي المرض ولا يخلق أمراضاً أخرى لبقيّة الجسد. هكذا عندما نريد أن نفكّر في قضايا الأمّة؛ فإنّ علينا أن نفكّر في حلّ المشكلة في بلدنا أو في إقليمنا أو في أيّ موقعٍ يتّسع ويضيق من مواقعنا، بحيث لا ينعكس سلباً على قضايا الأمّة. وهذا ما نواجهه في المرحلة الحاضرة في أكثر من قضيّةٍ من قضايانا العامّة الّتي تتّصل بواقعنا كلّه.

لقد أصبحنا في كلّ بلدٍ نفكّر في حلّ لمشاكله، كما لو كان هذا البلد منفصلاً عن البلدان الأخرى. نفكِّر ـ مثلاً ـ في حلّ مشكلةٍ لبنانيّة بعيداً عن مشاكل العرب أو مشاكل المسلمين كلّهم، أو نفكّر في حلّ المشكلة العراقيّة مثلاً بعيداً عن المشكلة العربيّة أو الإسلاميّة المتّصلة بمواقع الاستكبار العالميّ... وهذا وهْم كبير، إذ لا يمكن أن تُحلّ مشكلة في بلدٍ ما وتُستأصل من جذورها، إلا إذا استطعنا ربطها بالمشكلة الأمّ الّتي توزَّع مشاكلها على المواقع كلّها، وإلا فقد يكون ما يصوَّر لنا حلاً، قد يكون مجرّد تخدير. هناك فرق بين أن تحلّ المشكلة، وبين أن تخدّرها. وهناك فرق بين أن تُشفي المرض، وبين أن تخدِّره.

قد يستيقظ الألم عند الشّروع بعلاجه، لكنَّه سوف يبرأ بعد ذلك. لهذا فإنَّ ما نودّ قوله في مرحلتنا الحاضرة، ضرورة استيحاء كلمة الإمام الحسين(ع): "خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي"، إنّ الإمام الحسين(ع) كان ينظر في ثورته إلى السّاحة الإسلاميّة الواسعة، وإلى الخطّ الإسلاميّ الممتدّ في حياة المسلمين جميعاً، لهذا فإنّ معارضته ليزيد، لم يعقها كون يزيد خليفةً يعيش في الشّام. الإمام الحسين(ع) كان يعيش في الحجاز، وبالتّالي، هل يمكن القول إنّ هذا أمر لا يخصّه، باعتبار أنّه لا دخل لأهل الحجاز بأهل الشّام، وعلى كلّ فريقٍ تدبير أمره ومشاكله، أليس هذا هو المنطق الّذي نعيشه الآن في أكثر من بلدٍ إسلاميّ، حيث يعتبر كلّ بلدٍ أنّ له قضاياه ومشاكله الّتي يريد حلّها ولو على حساب قضايا الأمّة؟

الإمام الحسين(ع) لم ينظر إلى القضيّة من هذا الجانب، ولم ينظر إلى يزيد باعتباره مجرَّد والٍ على الحجاز يمكن أن يُعزَل فتُحلّ المشكلة، ولا باعتباره والياً على الشَّام، إنّما نظر إلى يزيد كونه (خليفة المسلمين)، فسلوكه ينعكس سلباً على السّلوك الإسلاميّ كلّه، وطريقته في إدارة المسؤوليَّة تنعكس سلباً على كلِّ مواقع المسؤوليَّة في العالم الإسلاميّ. وعلى أساس ذلك، فقد اعتبر الإمام الحسين(ع) مشكلة يزيد مشكلةً تمسّ الأمَّة كلّها، لا فريقاً معيَّناً، لأنَّه في موقع حاكمٍ واسع الصّلاحيَّات، في الوقت الّذي لا يملك أيّة مؤهّلاتٍ فكريّةٍ وأخلاقيّةٍ وروحيّةٍ تسوّغ له أن يكون في هذا الموقع.

وعلى هذا الأساس، وجد الإمام الحسين(ع) أنّ عليه أن يطلق الصّوت، ولو ليسمعه بعض النّاس، فالأصوات كانت قد خفت، وأصبح هناك أمر واقع، كلٌّ يقول للآخر: ماذا نفعل وقوّة الدّولة أقوى من قوّة الأفراد؟! وكأنَّ عليهم الاستسلام للدَّولة. فهذا يخوِّف صاحبه بانقطاع راتبه ـ إذا ما قام بعمل ضدَّ الحاكم ـ وذاك يخوِّف صاحبه بتهديم بيته. وبذلك استطاع الحكم أن يستقطب السَّاحة كلَّها من المؤيّدين له، ومن المعارضين السّاكتين، ومن الحياديّين الّذين "يجلسون على التلّ"... لهذا، فالمسألة كانت بحاجةٍ إلى صوتٍ ينطلق، يحرِّك ويدوّي، ليربك السّاحة، وليخلق فيها ذهنيّةً جديدة، ليشجّع الّذين لا يملكون أيّة إمكانيّات لحركة شجاعتهم، لأنّهم لا يرون أحداً يتحدّث أو يتكلّم أو يثير المسألة.

حركة تغيير الذّهنيَّة الإسلاميَّة:

إنَّ حركة الإمام الحسين لم تكن حركةً نحو الفتح الكبير على مستوى الواقع، ولكنَّها كانت حركةً نحو الفتح الكبير على مستوى الذّهنيَّة الإسلاميّة الّتي يريد أن يطلقها باتجاه قضايا الحرّيّة والعدالة، والمنهج الإسلاميّ القويم، لهذا نبّههم إلى أنّهم أمّة محمّد(ص)، وأنّ هناك فساداً في الأمّة، وأنّه(ع) انطلق ليُصلح، وأنّ عليهم أن يتبعوه.. وهكذا طرح مسألة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، على أساس أنّه يمثّل الرّقابة الاجتماعيّة الّتي يتحوّل فيها كلّ مسلمٍ إلى "خفير"، فكلّ مواطن في الإسلام هو حارسٌ للقيم وللنّهج الشّرعيّ في حياة النّاس.

أجل، إنّ كل مسلمٍ هو حارسٌ للقضايا الكبرى الّتي يمكن أن يتحرّك ضدّها هذا الفريق أو ذاك. وهذا ما يُسمّى بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الّذي دعا الله سبحانه وتعالى النّاس إليه، ليهيّئوا من أنفسهم جماعةً قويّةً بحجم الحاجة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 104]، على أساس أنّ سلامة المجتمع هي في الدّعوة إلى المعروف، ومواجهة المنكر الّذي يمكن أن يساهم في إسقاط حياة النّاس فكريّاً وسياسيّاً وأمنيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً.

وعندما طرح الإمام الحسين(ع) هذه المسألة، طرحها بفرض أن تفتح عقول النّاس على هذه العناوين، وأن تفتح أرواحهم على تحسّس مثل هذه الأمور. ولم يكن في أسلوبه يتحرّك من موقع العنف؛ فقد خاطب النّاس قائلاً: "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ"، كأنّه يريد أن يقول للنّاس: فكّروا في كلماتي وفي طروحاتي ومواقفي؛ ولا تستغرقوا في ذاتي، ولكن استغرقوا في الخطّ الّذي أطرحه عليكم، وفي الواقع الّذي أنبّهكم إلى كلّ ثغراته وسلبيّاته، "ومن ردّ عليّ هذا" ولم يقبلني، فإنّما يكون رافضاً الحقّ الّذي جئتُ به وانطلقت فيه صابراً، حتّى يأتي الوقت الّذي ينفتح النّاس على الحقّ، دون أن أتراجع أو أسقط أو أتعقّد، ولكنّني أتابع قول كلمة الحقّ الآن وبعد الآن. ولذا فعندما جاءت الجيوش لتقتل الإمام الحسين ولتحاربه، كان يقف في كلِّ يومٍ ليخطب فيهم، ليُسمعهم كلمة الحقّ، حتّى يُخرجهم من عصبيَّاتهم، فيجعلهم يعيشون التَّوافق والانسجام بين الفكر والممارسة؛ لأنَّه(ع) وجدهم كما وصفهم الفرزدق: "قلوبهم معه وسيوفهم عليه"، فحاول أن يجعل سيوفهم في اتجاه ميل قلوبهم، وحاول أن يوفّق بين حركتهم في الواقع، وحركتهم في العقل والفكر، لأنَّ هذه هي مشكلة أغلب النّاس الّذين يحبّون الله، ولكنّهم يحبّون الشّيطان معه. فعندما تنفتح مصالحهم على الخطّ الآخر، يحتفظون بمحبّتهم كعاطفةٍ في قلوبهم، ويتحرّكون في خطواتهم لمحاربة الله ورسوله عمليّاً على أساس أنّ مصالحهم تتّجه في ذاك الاتجاه.

الصّبر على احتضان الحقّ:

لقد كان الإمام الحسين(ع) يعمل على فتح القلوب، في ما كانت قيادات يزيد تعمل على إغلاقها، ولذلك رأينا شمر بن ذي الجوشن يقف أمام الحسين(ع)، وقد فرغ الحسين(ع) من خطابه، ليقول له: "ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمّك"، بمعنى أنَّنا لسنا مستعدّين أن نسمع أو نفكِّر في ما تقول، لأنَّ مسألتنا محسومةٌ؛ فهي ليست مسألة قناعةٍ، ولكنَّها مسألة منفعةٍ، وليست القضيَّة أن تكون مسيرتنا حقّاً أو باطلاً، خيراً أو شرّاً.. بل القضيَّة هي أن نقبض في مسيرتنا هذا المال أو ذاك، أو نحصل على هذا الموقع أو ذلك.

ولذلك، لا بدَّ من دراسة قضايانا كلّها، لا على مستوى الحاضر، بل على صعيد الحاضر والمستقبل. وهو ما نستوحيه من كلمة الإمام الحسين(ع): "من ردّ عليّ هذا أصبر". فلنقل الكلمة وليرفضها العالم، فلا بدَّ من أن يأتي وقت يمكن للنّاس أن يواجهوا قضاياهم من موقع متقدّم، لأنَّ الحاضر إذا ضاق عن قضاياكم، فإنّ المستقبل يمكن أن يفتح لكم أكثر من ثغرة.

فلا بدَّ إذاً من قول كلمة الحقّ دائماً مهما كانت الصّعوبات، فالحقّ كالجنين تماماً؛ فكما أنّ الجنين لن يستطيع بلوغ تكامله ونموّه إلا في الشّهر التّاسع، كذلك الحقّ قد يحتاج إلى سنواتٍ لنموّه وانتشاره، وقد يحتاج إلى أجيال. المسألة، كلّ المسألة، هي أن نعمل على أساس أن لا يفقد الحقّ نموّه في فكرنا وروحنا ووحدتنا وقوّتنا، وفي كلّ صرخات الدّعوة إلى الله، والدّعوة إلى الحقّ.

وإذا ما أردنا عاشوراء إسلاميّة متحرّكة، فيجب الانطلاق على أساس أن تبقى عاشوراء لله ولرسول الله(ص) وللإسلام، وأن تبقى عاشوراء في كلّ الأجيال صرخة الحرية والعدالة، عندما ينطلق الّذين يستعبدون النّاس ليفرضوا عليهم العبوديّة، أو الّذين يظلمون النّاس ليفرضوا عليهم الظّلم، فإنّ هذا هو طريق عاشوراء.
رقم : 415652
شارک بتعلیقک
الإسم الثلاثي

البريد الإلكتروني
تعليقك

أهم الأخبار
إخترنا لکم