0
الاثنين 4 تشرين الثاني 2013 ساعة 12:39

العراقي لا التركي

العراقي لا التركي
العراقي لا التركي
سرعان ما اصطدم الترويج لهذا النموذج بتباين المعطيات والحساسيات في مسارح الربيع السعيد الذكر. ارتطم الربيع بالأخبار الواردة من سورية التي غرقت في حرب مدمرة طويلة. تلقى طعنة نجلاء حين أطيح الرئيس محمد مرسي في ما يمكن اعتباره شبه ثورة وشبه انقلاب. لا ليبيا اعتنقت النموذج التركي ولا اليمن والامتحان التونسي مفتوح على كل الاحتمالات والأخطار.

أكدت الأحداث أن النموذج التركي ليس عباءة يمكن استعارتها بمجرد إدخال تعديلات طفيفة على مقاساتها. فلهذا النموذج علاقة بتجربة أتاتورك الطويلة ودرجة التقدم الاقتصادي ومدى نضج الإسلاميين من فرط الرقص الصعب مع الجيش المكلف حماية الإرث العلماني. لا جيوش الدول التي ضربها الربيع تشبه جيش أتاتورك ولا مؤسساتها تشبه المؤسسات التركية.

أي نظرة هادئة الى الدول التي أطاح الربيع رموز الاستبداد فيها أو ركائز استقرارها تدفع إلى الاعتقاد أن هذه الدول تجنح باتجاه النموذج العراقي لا التركي. في العراق الحالي دستور أقره الشعب لكن هذا الدستور لا يحل المشكلات بين المؤسسات ولا يوفر الضمانات ويمكن تعطيله أو الالتفاف عليه. في العراق انتخابات تجرى في مواعيدها لكنها لا تؤدي إلى إخراج البلد من المأزق الذي يتخبط فيه. في العراق عملية سياسية استهلكت وقتاً طويلاً وإمكانات مالية لكنها لم تمنع تفاقم أزمة المكونات. في العراق نظام يتكئ عملياً على المكون الأقوى ويخوض مواجهات متلاحقة مع المكونات الأخرى. في العراق جيش انفقت أموال هائلة على إعادة بنائه لكن وجود هذا الجيش لا يلغي وجود ميليشيات تفخخ وتفجر وتغتال. في العراق حكومة يفترض أن شرعيتها منبثقة من صناديق الاقتراع لكن ذلك لا يلغي أن قسماً من المواطنين يشعر بالتهميش بفعل سياساتها. في العراق علم يفترض أنه يرفرف على امتداد الخريطة لكن يرفرف معه في كردستان العراق علم الإقليم واستناداً إلى الدستور. وهناك علم «القاعدة» الذي يغتنم أي فراغ ليطل برأسه.

هل هذا هو النموذج الأقرب الى حقائق الإقليم ودوله؟ الدولة المركزية القوية صارت من الماضي. التغيير ينجب دولة رخوة تتعايش مع ما يشبه الحرب الأهلية الدائمة على أراضيها. دول رخوة وخرائط رخوة. أشكال من الفيديرالية المعلنة وغير المعلنة لكن على قاعدة التنابذ الدائم لا التعاون. كتل عرقية او مذهبية تتجاذب مؤسسات الدولة فتنهكها وتعطلها ونسيج اجتماعي مريض يسمح لـ «القاعدة» وأخواتها بالتسلل الى الداخل لتمعن تفجيراً وتمزيقاً. وقد يبلغ التردي حد تمكن «القاعدة» من التجذر في جزء من الخريطة وإعلان دولتها هناك وسط مسلسل الغارات والتفجيرات والجنازات.

لا علاقة للأمر بأي ميل الى التشاؤم. يكفي أن يتابع المرء ما يجري في اليمن. وليبيا. وسورية. ولبنان. وتونس. إما دولة هشة أو لا دولة. دولة منتهكة ومؤسسات متآكلة. وعصبيات حزبية أو جهوية أو قبلية. ثمة من يتخوف من عقود من التفكك تسمح لكل العصبيات المكبوتة والأحلام السرية بالتعبير عن نفسها بعنف قاتل. ثمة من يعتقد أن ذهاب الحاكم المستبد لا يعني بالضرورة سلوك طريق الديموقراطية. يمكن الوقوع في أشكال أخرى من الاستبداد أخطرها استبداد فكرة لا تجيز أي اختلاف وتعتبر المختلف خائناً ودمه مباحاً.

تشهد الدول الرخوة نزاعات تفيض عن حدودها. تشهد تحالفات مذهبية عابرة للحدود. تشهد تمزقات وتدخلات وحروباً بالواسطة. هذا يفسر اضطراب العلاقات الإقليمية. يفسر ايضاً ارتباك سياسات الدول الكبرى حيال نزاعات ترتدي غالباً طابع الاحتراب الأهلي وإنْ رفعت شعارات أخرى. يؤدي المشهد ايضاً إلى ارتباكات في علاقات الدول الكبرى بالدول القلقة من اهتزاز التوازنات في الإقليم.

غلبة النموذج العراقي تعني أن الإقليم مرشح لمزيد من النزاعات والخسائر. لمزيد من التفكك والفقر والإرهاب والهجرة. إنه مناخ ملائم لنمو الأصوليات وتفاقم ذعر الأقليات وجاذبية الخيارات الانتحارية. مناخ يتيح لـ «القاعدة» التسلل الى الخرائط المتصدعة وإلهاب خطوط التماس داخلها وعلى حدودها.

بقلم: غسان شربل 

/ انتهى المقال /
رقم : 317445
شارک بتعلیقک
الإسم الثلاثي

البريد الإلكتروني
تعليقك

أهم الأخبار
إخترنا لکم