0
السبت 18 كانون الثاني 2014 ساعة 23:14

الرسول.. القدوة..

الرسول.. القدوة..
الرسول.. القدوة..
"فتأسَّ بنبيّك الأطيب الأطهر صلى الله عليه وآله وسلم فإنَّ فيه أسوة لمن تأسَّى وعزاءً لمن تعزَّى وأحبُّ العباد إلى الله المتأسِّي بنبيّه...عُرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها وعلم أنّ الله سبحانه أبغض شيئًا فأبغضه وحقّر شيئًا فحقّره وصغَّر شيئًا فصغّره... ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد ويخصف بيده نعله ويرقّع بيده ثوبه... فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه وأحبَّ أن تغيب زينتها عن عينه لكي لا يتّخذ فيها رياشًا ولا يعتقدها قرارًا ولا يرجو فيها مقامًا من النفس وأشخصها عن القلب وغيَّبها عن البصر"1.

إنّ من أعظم واجبات الأمّة الإسلاميّة تجاه رسولها الكريم الاقتداء به والسير في هديه ونهجه. وبذلك تضمن لنفسها سلامة الدنيا والآخرة، والنصر فيهما.

فالله تبارك وتعالى بعث النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإنقاذ البشرية ونقَلَها من ظلمات الجهل إلى مرابع النور والعلم والمعرفة فحمل صلى الله عليه وآله وسلم مشعل الهداية لينير طريق السالكين إلى الله تبارك وتعالى.

وكان الاختيار الإلهيّ لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمل الكثير من الدلالات والعِبَر التي يقف على رأسها أنّ حامل الرسالة والداعي إلى الله تعالى لا بدّ من أن تتوفّر لديه مزايا وخصائص يستطيع من خلالها أن يكون الهادي والمبشّر والمنذر والسراج المنير.

لماذا القدوة

إنّ الحاجة إلى اختيار القدوة في حياة الإنسان هو لمعرفة سلوك الطريق الموصلة إلى النجاة والسعادة ومن خلال شخصية المختار يمكن للإنسان تكوين الملامح العامة للشخصية.

فمثلًا، لكي تسلك طريق مكارم الأخلاق لا بدّ من اختيار النموذج الأكمل والحامل للقيم الأخلاقية السامية والمتحلّي بها واتّخاذه قدوة وأسوة في ذلك، وهكذا الحال في الفضائل والمكارم التي يرغب الإنسان بالتحلّي بها.

وحيث يكون الإختيار خاطئًا فإنّ ذلك يؤدّي إلى الوقوع في المهالك والعواقب السيئة، وهذا ما يفرض اتّباع من لا يَضلّ ولا ينسى وهو الله تبارك وتعالى.

محمد صلى الله عليه وآله وسلم القدوة

إنّ اتّباع الباري عزَّ وجل يحتّم علينا الانقياد التامّ والمطلق لأوامره ونواهيه ومن جملة ما أمر به سبحانه الاقتداء والتأسّي بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مفتاحًا لرضوانه وطريقًا إلى جنانه. فقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾. 2

وقال تعالى على لسان نبيّه الكريم: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.3

فالاهتداء والاتّباع والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم واقتفاء أثره والسير على طريقه، يوصل الإنسان إلى درجة القرب من الله تعالى والمحبّة الإلهيّة.

فمن كان من الناس يبحث عن قدوة وأسوة فأين هو عمَّن مدحه الله تعالى في كتابه الكريم قائلًا: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.4

وقيل في سبب نزول هذه الآية أنّه كان صلى الله عليه وآله وسلم قد لبس بُردًا نجرانيًّا ذا حاشية غليظة، فبينما هو يمشي إذ جذبه أعرابيٌّ من خلفه فحزَّت وأثّرت في عنقه، وقال له الأعرابيّ: أعطني عطائي يا محمّد، فالتفت إليه صلوات الله عليه وآله مبتسمًا وأمر له بعطائه، فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ فمدحه الله بهذه مدحةً لم يمدح بها أحدًا من خلقه.5

منابع القدوة في شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

ممّا لا شكّ فيه أنّ شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينبوع الفضائل، وأساس المكارم، والمظهر الكامل للأخلاق العالية، وإذا ما أراد المرء البحث عن أيّ فضيلة ومكرُمَة فهي عنده صلى الله عليه وآله وسلم بمرتبتها العالية. ومن هنا كانت دعوة الإمام علي عليه السلام إلى التأسّي به لأنّه الأسوة لمن تأسَّى.

وكما نلاحظ في الخطبة المتقدّمة فإنّ الإمام علي عليه السلام يبيّن لنا بعضًا من منابع القدوة في شخصية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والتي يمكن اختصارها بأمرين:
الأولى: القدوة في مكارم الأخلاق.
الثانية: القدوة في الإعراض عن الدنيا.

ولأهمية هاتين الصفتين المشار إليهما في كلام الإمام عليّ عليه السلام نتحدّث عنهما ولو بشيءٍ من الإجمال.

القدوة في مكارم الأخلاق

تميّزت شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحاسن الأخلاق ومكارمها وهي صفة يطمح إليها كلّ عاقل، ويسعى جاهدًا في كسبها وتحقيقها، وإنّ جميع القيم والفضائل، لا تكون مدعاةً للإعجاب والإكبار إلاّ إذا اقترنت بحُسن الخلق، وازدانت بجماله الزاهر ونوره الوضّاء.
لذلك كانت مكارم الأخلاق ملاك الفضائل ونظام عقدها، ومحور فلكها وهي الهدف الأسمى من بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق".6

وكان من الآثار العظيمة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بحكمته وأخلاقه، قدرته على إحداث أكبر عملية تغيير في العالم حيث نقل المجتمع من الجاهلية إلى الإسلام، ومن الأخلاق السيئة والأفعال القبيحة إلى خير أمّةٍ أُخرجَت للنّاس وعندما بُعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الدين الحنيف، وضع أُسس أكبر تغيير جذريّ يُبشِّر بسعادة البشرية في الدارَين.

وما كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليجمعهم على كلمة التقوى لولا خُلُقه الرفيع، ودعوته الكريمة التي انطوت على التمسّك بالأخلاق الفاضلة، واعتبار أنّ المتخلِّق بأخلاق الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم هو من خيار المؤمنين.

وسُئِل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ المؤمنين أفضلهم إيمانًا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " أحسنهم خُلُقًا". 7

فكمال الإيمان لا يتمّ إلاّ بمكارم الأخلاق، وهذا من أسرار عظمة الدين الإسلاميّ الذي ارتكز على ركيزتين مهمّتين هما العبادات والمعاملات.

ومن وصايا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم".

ويقول المفكّر وول ديورانت: "إذا حكمنا على العظماء بما كان للعظيم من أثرٍ في الناس، قلنا محمّد أعظم العظماء".

وبناءً عليه فإنّ الخطوات الأولى للاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم متابعته وسلوك سبيله قولًا وعملًا وخُلُقًا وسيرةً وعقيدةً، ولا يصدق الاقتداء إلّا بهذا، ومن لم يكن له من أخلاقه وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم نصيب، لم يكن له من الاقتداء نصيب.

القدوة في الإعراض عن الدنيا

إنّ ما يذكره الإمام علي عليه السلام في كلامه المتقدِّم يُظهر لنا موقع الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكيفية تعاطيه معها، وقد أشارت الروايات الشريفة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى عرض على نبيّه الكريم أن يجعل الدنيا كلّها مسخَّرة له بما فيها من متاعٍ ولذائذَ ولكنّه صلى الله عليه وآله وسلم أبى ورفض لأنّ قلبه لا يمكن أن يميل إلى ما هو فانٍ، فليس هو من ضعفاء الإيمان المخدوعين بمباهج الدنيا ومفاتنها. خصوصًا أنّه المبلِّغ عن قيمتها الدنيئة بما جاء به القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾.

فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليغترَّ بزخارف الدنيا ومباهجها الفاتنة، ولم يكن ليقع في حبائلها، ولا ليركن لأشراك الشيطان. فأمضى حياته في العبادة والورع والزهد وتربية الأمّة وتوجيهها نحو الباري عزَّ وجلّ.

ولنا في عهد الطغاة والجبّارين عبرة حيث عملوا بكل جهدٍ للدنيا وحصّلوا ما أرادوا منها ظلمًا وعدوانًا. وفي نهاية المطاف رحلوا عنها ولم يأخذوا منها شيئًا.

فها هو هارون الرشيد في معرِض موته ينتقي أكفانه يردّد قائلًا: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ﴾.

وقيل لعبد الملك بن مروان في مرضه: كيف تجدك يا أبا مروان؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ﴾.

فهؤلاء الذين ملكوا من الدنيا وجمعوا فيها ما لا يملكه ولا يجمعه أحد، أين هم الآن؟ وأين ذكراهم؟ وأين قصورهم وذخائرهم؟ وأمّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي رحل عن الدنيا وهو لا يملك منها شيئًا، ها هو خالدٌ فيها بذكره الطيّب واسمه الذي يُصدح به الآذان، وحياته الباقية في قلوب المؤمنين والصالحين.

ونحن باستطاعتنا بما نملكه من حريّة الاختيار أن نعيش ونرحل إمّا كما رحل الطغاة أو كما رحل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم !!

مدونة الشيخ خليل رزق.
رقم : 342637
شارک بتعلیقک
الإسم الثلاثي

البريد الإلكتروني
تعليقك

أهم الأخبار
إخترنا لکم