0
الأحد 20 تموز 2014 ساعة 02:09

اتّباع الهوى وطول الأمل

اتّباع الهوى وطول الأمل
اتّباع الهوى وطول الأمل
يتحدّث أمير المؤمنين عليه السلام عن أمرين خطيرين على سلوك الإنسان نحو الله تعالى، الأمر الأول: اتّباع الهوى، الأمر الثاني: طول الأمل.

الأمر الأوّل: اتّباع الهوى
لا شكّ أنّ للنفس الإنسانية رغبات وغرائز ومتطلّبات وحاجات وميولاً مختلفة، فالإنسان -مثلاً- يحتاج إلى الارتباط بزوج ليلبّي حاجته الجسدية بالإضافة إلى حاجته للأولاد، ويحتاج إلى المال ليحفظ به نفسه وعياله ويطوّر حياته، ويحب أن يكون محترماً بين الناس عزيزاً، وأن يكون حراً.

هذه بعض الحاجات والغرائز الموجودة في الإنسان، وجميعها ضروريّ لبقاء حياته، ولا شكّ أنّ مبدع الوجود خلقها جميعاً لهدف تكامليّ. 

والهدف التكامليّ يتحقّق بأن لا تتجاوز الغرائز والحاجات حدّها، وتخرج عن التوازن والحدّ الوسط إلى الإفراط أو التفريط، وذلك بالتمرّد على الشرع والعقل، وبذلك تكون سائرة مع الهوى المذموم وتابعة له.

فالحاجة الجسدية إذا خرجت عن التوازن إلى التفريط بأن لا يتزوّج، أو إلى الإفراط بأن يلبّي حاجته هذه بأيّ شيء دون رقيب أو حسيب من دين أو عقل، بأن يرتكب المحرّمات مثلاً - والعياذ بالله - فهذا وذاك اتّباع للهوى.

والحاجة إلى جمع المال إذا أبطلها الإنسان وزهد فيها زهداً سلبياً، أو انكبّ على الجمع من أيّ طريق وبأيّ وسيلة ولو كانت من حرام كالسرقة والغصب والاحتيال والربا، فهذا وذاك من اتّباع الهوى.

وحبّ الاحترام والعزّة بين الناس إذا أعدمه الإنسان وأذلّ نفسه، أو إذا طلب الجاه بطرق منحرفة، فكلا الحالتين من اتّباع الهوى.
وحبّ الحرية إذا أبطله الإنسان وأصبح يألف العبودية للاستعمار مثلاً، أو أرخى لنفسه العنان دون ضابط، فكلاهما من اتّباع الهوى.
وهكذا كلّ حاجات الإنسان إذا خرجت عن الاعتدال فهي تتبع الهوى والهوى يصدّ عن الحقّ كما قال الإمام عليه السلام.

وقد حذّرنا الله تعالى من اتّباع الهوى في كثير من آيات القرآن، منها، قال سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُون﴾ ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾.

والروايات في ذمّه كثيرة، منها عن الإمام عليّ عليه السلام: "والشّقيّ من انخدع لهواه وغروره.... ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان، ومحضرة للشيطان...".

"عباد الله: لا تركنوا إلى جهالتكم، ولا تنقادوا لأهوائكم، فإنّ النازل بهذا المنزل نازل بشفا جرف هار، ينقل الرّدى على ظهره من موضع إلى موضع..".

رغبات النفس لا تنتهي
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أيها العزيز، أنّ رغبات النفس وآمالها لا تنتهي ولا تصل إلى حدّ أو غاية. فإذا اتّبعها الإنسان ولو بخطوة واحدة، فسوف يضطرّ إلى أن يتّبع تلك الخطوة خطوات، وإذا رضي بهوى واحد من أهوائها، أجبر على الرضى بالكثير منها. ولئن فتحت باباً واحداً لهوى نفسك، فإنّ عليك أن تفتح أبواباً عديدة له.

إنّك بمتابعتك هوى واحداً من أهواء النفس توقعها في عدد من المفاسد، ومن ثم سوف تُبتلى بآلاف المهالك، حتّى تنغلق ـ لا سمح الله ـ جميع طرق الحقّ بوجهك في آخر لحظات حياتك، كما أخبر الله بذلك في نصّ كتابه الكريم، وكان هذا هو أخشى ما يخشاه أمير المؤمنين ووليّ الأمر، والمولى، والمرشد والكفيل للهداية والموجِّه للعائلة البشرية عليه السلام ".

وهذا يعني أنّ على الإنسان أن يقطع الطريق على الهوى من بداية الطريق حتّى لا يسقط في الهاوية السحيقة؛ لأنّ الإنسان في البدايات هو أقدر على السيطرة على الأمور من المراحل المتقدّمة فضلاً عن النهايات.

سدّ طرق الحرام
إنّ قطع الطريق على الشهوة المحرّمة ينبغي أن يكون من أوّل الطريق فلا ينبغي للإنسان أن يتبع هواه في أن ينظر النظر المحرّم سواء النظر المباشر أم عبر الإعلام، أو يختلي بامرأة لا تحلّ له، أو يمازح امرأة لا يجوز له ممازحتها،أو يختلط مع النساء بشكل لا ضابط فيه، فإنّ كلّ ذلك مقدّمات إن لم يقطعها الإنسان من أوّل الطريق يخشى عليه أن يقع في الهاوية السحيقة.

فإنّ هوى النفس كالنار لا تشبع، وعليك أن تقطع عليه المزيد بقناعتك بحلال الغرائز والميول والاحتياجات.

وقد حذّر الإمام عليّ عليه السلام من أوّل الهوى وبداياته: "إيّاكم وتمكّن الهوى منكم، فإنّ أوّله فتنة وآخره محنة"، وعنه عليه السلام: "أوّل الشهوة طرب، وآخرها عطب"، وعنه عليه السلام: "إيّاكم وغلبة الشهوات على قلوبكم، فإنّ بدايتها ملكة، ونهايتها هلكة"، وعنه عليه السلام: "كم من شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً".

فعلى الإنسان المؤمن أن يحذر الهوى كما يحذر أعداءه، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم، وحصائد ألسنتهم" و"أشجع الناس من غلب هواه" كما عن رسول الله.

مرّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بقوم يتشايلون حجراً، فقال: ما هذا؟ فقالوا: نختبر أشدّنا وأقوانا، فقال: ألا أخبركم بأشدّكم وأقواكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أشدّكم وأقواكم الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحقّ، وإذا ملك لم يتعاطَ ما ليس له بحق". 

فإذا كنّا نريد الجنّة فعلينا بنهي النفس عن الهوى،يقول سبحانه: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).

الأمر الثاني: طول الأمل
ينبغي الإلفات إلى أنّ أصل (الأمل) ليس فقط غير مذموم بل له دور مهمّ في إدامة حركة الحياة والتطوّر البشريّ في الأبعاد المادية والمعنوية.

إذا سُلب الأمل من قلب (الاُمّ) فإنّها لا تجد دافعاً لإرضاع طفلها وتحمُّل أنواع المشقّة والألم بتربيته وتنشئته كما ورد هذا المعنى في الحديث النبويّ الشريف "اَلاْمَلُ رَحْمَةٌ لاِمَّتِي وَلَوْلاَ الاْمَلُ مَا رَضِعَتْ وَالِدَةٌ وَلَدَهَا وَلاَ غَرَسَ غَارِسٌ شَجَرَهَا".

إنّ من يعلم مثلاً بأنّ هذا اليوم هو آخر يوم من حياته أو أنّه سيموت بعد أيّام قليلة ويغادر الدنيا فإنّه سيترك جميع ما في يده من أعمال ونشاطات في دائرة المعيشة والعلاقات الإجتماعية. وفي الحقيقة فإنّ ذلك يعني انطفاء شعلة الحياة. ولعلّ أحد الأسباب لخفاء الأجل هو أن يبقى الإنسان في حالة الأمل والرجاء ويعيش الحركة الطبيعية في أمور المعيشة.

عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتّى يغرسها فليغرسها".

وعن المسيح عليه السلام أنّه: "بينما عيسى ابن مريم عليه السلام جالس وشيخ يعمل بمسحاة ويثير الأرض، فقال عيسى عليه السلام: اللهمّ انزع منه الأمل، فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعة، فقال عيسى: اللهمّ اردد إليه الأمل، فقام فجعل يعمل، فسأله عيسى عن ذلك، فقال: بينما أنا أعمل إذ قالت لي نفسي: إلى متى تعمل وأنت شيخ كبير؟ فألقيت المسحاة واضطجعت، ثم قالت لي نفسي: والله لا بدّ لك من عيش ما بقيت، فقمت إلى مسحاتي".

ومن هنا قال الشاعر:
أعلّل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

فالأمل ضروري لإيجاد التحرّك أكثر لدى أفراد المجتمع من موقع النظر إلى المستقبل في حركة الحياة.

ولكنّ نفس هذا الأمل الّذي يُعدّ رمز حركة الإنسان وسعيه في حياته الدنيوية والماء الّذي يسقي أرض حياته الميّتة ويُنعش إحساساته وعواطفه بغد أفضل، نفس هذا الأمل إذا تجاوز حدّه المرسوم أصبح على شكل سيل مدمّر يأتي على الأخضر واليابس ويُغرق الإنسان في وحل حبّ الدنيا والظلم والجريمة والإثم.

يروى عن الإمام الكاظم عليه السلام: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا". فالشطر الأول من الحديث يشير إلى الأمل الإيجابيّ لإعمار الدنيا، والشطر الثاني من الحديث يشير إلى ضرورة أن لا ينسى الإنسان الموت لإعمار الآخرة.

وقد حذّر الإسلام من طول الأمل المذموم الذي يُنسي الآخرة، قال تعالى واصفاً الكفّار:﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾18 وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.

وعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه واله وسلم قوله: "أرْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَطُولُ الاَْمَلِ وَالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا".

وعن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: "َمَنْ اَطَالَ اَمَلَهُ سَاءَ عَمَلُه".

وعن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الإمام الحسين عليه السلام عن جدّه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: "اِنَّ صَلاَحَ اَوَّلِ هَذِهِ الاْمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ وَهَلاَكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ (بِالشَّكِّ) وَالاْمَلِ".

من العوامل المهمّة لانتصار المسلمين في صدر الإسلام الإيمان واليقين الراسخ بالإضافة إلى عدم اهتمامهم بزخارف الدنيا وبريقها، حيث تسبّب ذلك في أن يرد المسلمون الأوائل إلى ميدان القتال والجهاد بشجاعة فائقة وشوق بالغ فلم يكونوا يرون إلاّ الله تعالى والدار الآخرة.

ولكن عندما امتدّت إليهم الآمال الطويلة وملكتهم العلائق الدنيوية وخدعتهم ظواهر الدنيا حلّ الشكّ والترديد محلّ اليقين، والشغف بأُمور الدنيا محلّ الزهد، وبدأوا يتراجعون أمام أعدائهم ويسلكون سبيل التخلّف والانحطاط الحضاريّ والثقافيّ، فلا سبيل لهم اليوم لتجديد عظمتهم الأولى سوى إحياء اليقين والزهد وقصر الأمل وذكر الموت والآخرة وعدم نسيانهما.

ففي وصية رسول الله لأبي ذرّ: "يا أبا ذرّ: إيّاك والتسويف بأهلك، فإنّك بيومك ولست بما بعده، فإن يكن لك غد فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غد، لم تندم على ما فرّطت في اليوم. يا أبا ذرّ: كم من مستقبل يوماً لا يستكمله، ومنتظر غداً لا يبلغه. يا أبا ذر: لو نظرت إلى الأجل ومصيره لأبغضت الأمل وغروره. يا أبا ذرّ: كن كأنّك في الدنيا غريب أو عابر سبيل، وعدّ نفسك من أصحاب القبور. يا أبا ذرّ: إذا أصبحت لا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح".

وفي رواية: أنّه اجتمع عبدان من عباد الله فقال أحدهما للآخر: ما بلغ من قصر أملك؟ فقال: أملي إذا أصبحت أن لا أمسي، وإذا أمسيت أن لا أصبح. فقال: إنّك لطويل الأمل. أما أنا فلا أؤمل أن يدخل لي نفَس إذا خرج، ولا يخرج لي نفَس إذا دخل.

ويروى أنّ حذيفة قال يوماً لرجل: أراك إذا دخلت الكنيف أبطأت في مشيتك وإذا خرجت أسرعت، فقال: أدخل وأنا على وضوء وأخرج وأنا على غير وضوء فأخاف أن يدركني الموت قبل أن أتوضّأ، فقال له حذيفة: إنّك لطويل الأمل، لكنّي أرفع قدمي فأخاف أن لا أضع الأخرى حتّى أموت.

قد لا تستطيعون أن تكونوا قصيري الأمل بهذه الدقّة ولكن أعينوا رسول الله والأئمة والأولياء قدر مستطاعكم.
أعاننا الله على محاربة الهوى وطول الأمل، فانتصارنا عليهما مقدّمة مهمّة لانتصارنا على أعداء الله والإنسانية.
رقم : 400445
شارک بتعلیقک
الإسم الثلاثي

البريد الإلكتروني
تعليقك

أهم الأخبار
إخترنا لکم