0
السبت 17 أيار 2014 ساعة 15:51

التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله
التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله
تمتاز هذه الوصيّة بمجموعةٍ من الخصائص تؤكّد على أهميّتها ولزوم العمل بها:

منها: أَنَّها صدرت عن معصوم خبيرٍ بشؤون النفس البشرية، كخبرةِ الطبيب الحاذق والحكيم الماهر، وقد جاء في نهج البلاغة لسيِّد الفصحاء والمتكلمين يصف طبيب النفوس من نبيٍّ أو وصيٍّ بأنَّه: "طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَآذَانٍ صُمٍّ وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ"2. فكما أَنَّ المريض في الأمراض الجسدية يحاول أن يرجع إِلَى أفضل الأطبّاء في التشخيص والمعالجة، فلا بدّ له في الأمراض المعنوية والعلل النفسية أنْ يرجع إِلَى مَنْ كان مطّلعاً على خصائص النفس البشرية، ومرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخالق النُّفوس، ومَنْ هو أفضلُ من المعصوم عليه السلام في ذلك؟

ومنها: تكرُّر هذه الوصيّة من أكثر من معصوم, حيث تقدّم في نصِّ الوصيّة أَنَّ الإِمام السجاد عليه السلام أوصى ولده بها، وأخبره أَنَّها وصيّة الإِمام الحسين عليه السلام له أيضاً. ولا يخفى ما في هذا التَّكرار من الاهتمام من قِبَلِهم عليه السلام بمضمون هذه الوصيّة، وشدّة حرصهم عليها، ورغبتهم في تحقيقها.

ومنها: أَنَّها صدرت في لحظة حضور الوفاة، تلك المرحلة التي يكون فيها الإنسان بعيداً كلّ البعد عن التأثيرات الدُّنيوية، والأهداف الشخصانية، كيف وهو مزمعٌ على الرحيل، ومنصرفٌ إِلَى المثول بين يدي الجبّار الَّذِي لا تخفى عليه خافية، وهو عليمٌ بذاتِ الصدور! وكيف إذا اجتمع ذلك مع كونه معصوماً لا ينطق عن أهواء نفسانية ووسوساتٍ شيطانية.

ومنها: كونها إشفاقية، كما يستفاد ذلك من قوله: (ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ)، ولا يخفى أَنَّ شفقة الموصي على الموصَى له أدخل في تقبُّل النفس.

ومنها: اشتمالها على التحذير، كما يفهم من تصديرها بكلمة: (إِيَّاكَ)، الأمر الَّذِي يدلُّ على خطورة مضمونها، وكونه أمراً لازم الاجتناب.

والحاصل: أيُّها الحبيب، أنت مقبلٌ على الاستماع إِلَى وصيِّةٍ صادرةٍ من إمام معصومٍ خبيرٍ بنفوسنا وطبيب لأسقامنا، يهمُّه أمرنا، ويشفقُ على حالنا، ويريد منَّا أنْ نحذر من عاقبةِ هذا الأمر الخطير الَّذِي يدعونا إِلَى الابتعاد عنه. فهلّا أقبلت بآذانٍ صاغية، وجوارح مطيعة!

حقيقة الظُّلم

الظُّلم الَّذِي هو من ألأم الرذائل كما ورد في الخبر3، قد اهتمّ علماء الأخلاق في تعريفه وبيان حدوده، ويمكن تلخيص ذلك بعبارةٍ جامعة: إِنَّه الاعوجاج في الطريق، والخروج منه يمنةً ويسرةً، وعدم الاستقامة في العمل، ويختصر ذلك بقولهم: (جعل الشيء في غير موضعه). كما أَنَّ حقيقة العدل الَّذِي يقابله: عبارة عن الاستواء والاستقامة في جادة الشرع، وعدم الخروج منها يمنة ويسرة، وهو المعبّر عنه بـ (وضع كلّ شيء في موضعه).

وعليه، فالتجاوز والإضرار المحض الَّذِي لا نفع يترتّب عليه، ولا يكون لأجل دفع ضرر أعظم، في العاجل أو الآجل، يكون ظلماً.

والظلم بهذا المعنى يتناول جميع ذمائم الصفات والأفعال، فتمكين الظالم من ظلمه لمّا كان صفة ذميمة يكون ظلماً، كما أَنَّ تمكين الظالم من النفس والانقياد له نوعٌ من الذّلة، وهذا ظلمٌ للنفس، وظلم النفس من أقسام الظلم4.

ظلم مَنْ لا ناصر له

من أقبح أنواع الظلم وأشدّها عقاباً عند الباري عزّ وجلّ هو: (ظُلْمَ مَنْ لَا يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلَّا الله) كما ورد في نصّ الوصية. وقد سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: أَيُّ ذَنْبٍ أَعْجَلُ عُقُوبَةً لِصَاحِبِهِ؟ فَقَالَ: "مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ إِلَّا الله"5، ومن هنا رُوي عنه عليه السلام أيضاً: "ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ"6.

وطبيعيٌّ جدّاً أَنَّ الباري ينصرُ المظلوم سواء كان قوياً أم ضعيفاً إِلَّا أَنَّ نصره للضعيف آكد وأشدّ، فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّه قال: "الْعَبْدُ إِذَا ظُلِمَ فَلَمْ يَنْتَصِرْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَنْصُرُهُ رَفَعَ طَرَفَهُ إِلَى السَّمّاِء فَدَعَا اللهَ تَعَالَى، قَالَ جَلَّ جَلَالَهُ: لَبَّيْكَ عَبْدِى أَنْصُرَكَ عَاجِلاً وَآَجِلاً اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ ظَلَمَ أَحَداً لَا يَجِدُ نَاصِراً غَيْرِي"7، وقد حُكِي أَنَّ ظالماً ظلم ضعيفاً أعواماً، قال المظلوم للظالم يوماً:إِنَّ ظلمك عليَّ قد طاب بأربعة أشياء:إِنَّ الموت يعمّنا، والقبر يضمّنا، والقيامة تجمعنا، والديّان يحكم بيننا.

جزاء الظلم في العاجلة قبل الآجلة

فيما رُوي من الشعر عن سيّد الساجدين الإِمام عليّ بن الحسين عليه السلام أَنَّه قال:
لا تظلِمَنَّ إذا ما كنتَ مقتدراً *** فالظُّلم آخره يأتيك بالندمِ
نامت عيونك والمظلوم منتبهٌ *** يدعو عليك وعين الله لم تنمِ

والتجارب البشريّة لمسيرة الظالمين تشهد بأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يهملهم، بل ولم يمهلهم بشكلٍ تامٍّ في العقاب والعذاب إِلَى يوم الجزاء الأكبر، بل انتقم منهم في هذه الدُّنيا الزائلة، ولا أقلّ بانكشاف ظلمهم وانفضاحهم أمام الناس.

ولذا نجد الحثَّ على اجتناب الظُّلم ولو كان صغيراً، أو كان لغير الإنسان أَيضاً، فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول صادعاً بالحقّ: "وَالله لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَن أَعْصِيَ الله فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ وَلَنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لَا تَبْقَى"8.

قصّةٌ فيها عبرة (هند والحجّاج)

يُحكى أَنَّ هند بنت أبيها كانت أحسن أهل زمانها، فوصف للحجّاج حسنها. فأرسل إليها يخطبها، وبذل لها مالاً كثيراً وتزوج بها. ووضع لها صداقاً مئتي ألف درهم ودخل بها. ثُمّ إِنَّ الحجّاج رحل إلى العراق فأقامت معه ما شاء الله، واطّلعت على شديد ظلمه وسوء خلقه. فدخل عليها يوماً وهي تنظر في المرآة وتنشد شعراً:
وما هند إِلَّا مهرةً عربيةً***سليلة أفراس تحلّلها بغلُ
فإنْ ولدت فحلاً فللَّه درّها***وإنْ ولدت بغلاً فجاء به البغلُ

فانصرف الحجّاج ولم يدخل عليها. ولم تكن قد علمت به. فأراد أن يطلّقها، فأرسل لها صداقها، وقال للرسول: "طلّقها بكلمتين ولا تزد عليهما". فدخل عليها الرسول فقال لها: "كنتِ فبنتِ" ـ أي: كنتِ زوجةً وأصبحتي بائناً ـ وهذه المئتا ألف درهم. فقالت له: اعلم يا ابن طاهر: إنَّا ـ والله ـ كنّا فما حمدنا، وبِنّا فما ندمنا، وهذه المئتا ألف درهم التي جئت بها بشارة لك بخلاصي من كلب ثقيف.

ثم بلغ الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان خبرها، ووُصِف له جمالها، فأرسل إليها يخطبها. فكتبت بعد الثناء عليه: "يا أمير المؤمنين ـ والله ـ لا أحلّ العقد إلا بشرط، فإنْ قلت ما هو الشرط؟ قلت: أنْ يقود الحجّاج محملي إلى بلدك التي أنت فيها، ويكون ماشياً حافياً بحليته التي كان فيها أولاً".

فلمّا قرأ عبد الملك ذلك الكتاب ضحك ضحكاً شديداً، وأنفذ أمره إلى الحجّاج وأمره بذلك فامتثل الحجّاج للأمر ولم يخالف. وسار في موكبه حتى وصل المعرّة بلد هند، فركبت هند محمل الزفاف، وركب حولها جواريها وخدمها، وأخذ الحجّاج بزمام البعير يقوده ويسير بها. فأخذت هند تقول:
وما نبالي إذا أرواحنا سلمت***بما فقدناه من مال ومن نشب
فالمال مكتسبٌ والعزّ مرتجعٌ ***إذا النفوس وقاها الله من عطب

ولم تزل كذلك إلى أن قربت من بلد الخليفة، فرمت بدينار على الأرض ونادت: يا جمّال، إنّه قد سقط منّا درهمٌ فارفعه لنا. فنظر الحجّاج إلى الأرض فلم يجد درهماً، فقال: إنّما هو دينار. فقالت: بل هو درهم.

فقال: بل دينار. فقالت: الحمد لله، سقط منّا درهم فعوّضنا الله بدينار. فخجل الحجاج وسكت9.

فانظر ـ أيّدك الله تعالى ـ لطاغيةٍ مثل الحجّاج قد أذلّه الله في الدُّنيا على يدِ امرأةٍ ضعيفةٍ لا تملك من أمرها شيئاً، بعد أنْ كان متجبّراً ظالماً، لا تأخذه في سبيل شهواته ونزواته رأفةً بأحدٍ من عباد الله.

وهذه هي حال كلّ ظالم في هذه الحياة الدُّنيا، وفي مقابل ذلك فإنّ الله تعالى يعطي المؤمن من عباده المظلومين في هذه العاجلة قبل الآجلة ما يعوّضه فيها عن بعض الظّلم الَّذِي وقع عليه صابراً محتسباً.
رقم : 383535
شارک بتعلیقک
الإسم الثلاثي

البريد الإلكتروني
تعليقك

أهم الأخبار
إخترنا لکم