0
الأربعاء 31 تموز 2013 ساعة 00:48

الصخرة المشرفة ومصدر قدسيتها

الصخرة المشرفة ومصدر قدسيتها
الصخرة المشرفة ومصدر قدسيتها
للقدسية في الواقع مفهومان : أولهما مشتق من مفهوم الطهارة , وثانيهما مصدره التجلي الإلهي في مكان معين . وفي مدينة القدس يجتمع المفهومان .
من ملاحظات المؤرخين العرب خلال الفترة الأخيرة أن تسمية " القدس " ارتبطت بأمكنة توفر فيها مورد هام للماء مع وسائل تقنية ابتدعها الإنسان للاستفادة من هذا الماء . وحيث أن الماء أيضاً من ضرورات الطهارة , فقد تطورت الدلالة من الدلالة الحسية للتطهر إلى الدلالة المعنوية للتقديس.
 
لعل هذه الدلالة تفسّر لنا في الواقع لماذا وجدت العديد من المواقع التي حملت اسم القدس . فهناك القدس المتمثلة ببيت المقدس , وهناك قدس وقادش وعين قديس في فلسطين , وهناك قادش قرب حمص وقدسيا قرب دمشق في سوريا , ومغارة قاديشا في لبنان , وجبل قدس أوارة في الحجاز , والقادسية في العراق , وقادش المدينة الكنعانية على جزيرة في المحيط الأطلسي مقابل ساحل البرتغال حالياً . 

لكن الباحثين في الديانات يرون أن قدسية مكان معين تنجم عن التجلي الإلهي في ذلك المكان . يقول العلامة مرسيا إلياد : " إنما يعلم الإنسان بالقدسي لأنه يتجلى , يظهر نفسه شيئاً مختلفاً كل الاختلاف عن الدنيوي . ولكي نترجم فعل هذا التجلي الآتي من قبل القدسي اقترحنا اصطلاح Hierophanie { الظهور المقدس } " . 

بعد هذه الملاحظة , ننتقل إلى النقطة التالية : الكثيرون عند حديثهم عن القدس لا يميزون بين تسمية " القدس " و تسمية " بيت المقدس " , أو بين دلالة الأرض المباركة ودلالة الأرض المقدسة فلنقف قليلاً إذن عند هذه المسألة . 

رغم أن تعبير " بيت المقدس " ينصب في الأساس على موقع المسجد الأقصى وقبة الصخرة في القدس , إلا أن هذا الاسم يصلح لإطلاقه على كامل مدينة القدس , مثلما يصلح لإطلاقه على أكناف بيت المقدس التي تشمل بلاد الشام . ولكن من منا يستطيع أن يستخدم اسم " القدس " للدلالة على مساحة أضيق أو أوسع من مساحة مدينة القدس نفسها ؟ . 

واضح أن الدلالة التي ينطوي عليها اسم " بيت المقدس " أوسع بكثير من الدلالة التي ينطوي عليها اسم " القدس " . 

ننتقل الآن إلى مسألة التمييز بين " الأرض المقدسة " و " الأرض المباركة " . 

للأسف فإن الكثير من المفسرين , بما فيهم المعاصرون , لا يميزون بين دلالتي " الأرض المقدســـة " و " الأرض المباركة " من المنظور الديني . ونقول من المنظور الديني لأننا رأينا بداية أن اسم القدس أطلق عملياً على العديد من المدن التي لا تعتبر مقدسة عملياً , وإنما بسبب طبيعة مواردها المائية , بما في ذلك اسم مدينة القدس نفسها , التي لو استبعدنا منها " بيت المقدس " أو المسجد الأقصى وما يرتبط به من أحداث وتصورات دينية , لما عادت تعتبر مدينة مقدسة . 

إن الأرض المباركة , وهذه دلالة جغرافية ترد في القرآن الكريم مراراً , ومنذ عهد نوح عليه السلام , تشير بشكل أساسي ما لم نقل بشكل مطلق إلى بلاد الشام , تعني " الأرض المنتجة " , أي الأرض الغنية بنتاجها . ولذلك , فإن هذه الأرض سيشار إليها – ولو مرة واحدة على الأقل – على أنها أرض " التين والزيتون " . 

وأما " الأرض المقدسة " , فهي من المنظور اللغوي " الأرض المطهّرة " . وربما جاء تطهير هذه الأرض من خلال الزلازل والبراكين . ولنلاحظ أن " الأرض المقدسة " لم تذكر في القرآن الكريم بهذه الصيغة سوى مرة واحدة , بمناسبة قول موسى عليه السلام لقومه { أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } . وإذا كان تفكير البعض ما لم يهرع بمفهوم " الأرض المقدسة " إلى فلسطين مؤيداً بذلك الرواية التوراتية حول " أرض الوعد " , يتجه نحو مكة ومحيطها بالحجاز فإن هذه توصف بـ " الأرض الحرام " و " الأرض الآمنة " و " أم القرى " , بينما أعطيت لليمن في الجغرافيا القرآنية صفة " الأرض الطيبة " .
 
وفي المحيط الجغرافي ذكرت بابل باسم بابل وذكرت مصر باسم مصر . وبالتالي , فإن " الأرض المقدسة " المذكورة في التوراة قد تكون منطقة الحرات في جزيرة العرب أو منطقة أخرى كانت قد ضربتها البراكين و ودراسات الباحثين المعاصرين لخط ارتحال قوم موسى بعد الخروج تشير إلى منطقة المدينة المنورة . وهذا في الواقع ما تؤكده كتب الأنبياء حين تتحدث عن ضرب الأموريين من قبل الإله بوسائل الاقتلاع , وإخراج بني إسرائيل من مصر ليرثوا أرض الأموريين . إذ أنه من الواضح هنا أن الحديث يدور حول زلازل وبراكين سبقت في وقوعها خروج بني إسرائيل من مصر , وأخلت لهم – ولو جزئياً – بعض المناطق من سكانها . 

هنا بطبيعة الحال نميّز بين الأماكن أو المشاعر المقدسة وبين مفهوم " الأرض المقدسة " . فكل بيت مكرّس للعبادة هو في الواقع مكان مقدس , وكل مكان تجلت فيه الظهورات الإلهية هو أيضاً مكان مقدس , ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنه يخلع القدسية على المحيط كله . وفي رواية التوراة اعتبر الوادي الذي كلم فيه الرب عزّ وجل موسى في جبل حوريب { وادي طوا في القرآن الكريم } أرضاً مقدسة , كما اعتبرت " أرض كنعان " بمجرد عبور نهر الأردن مقابل أريحا أرضاً مقدسة ككل , ممّا أوجب على يوشع بن نون أن يخلع نعليه . 

بعد هذه المقدمات نمضي إلى القدس , ونطرح على أنفسنا السؤال التالي : ما هو مصدر قدسية القدس ؟ 

في الإجابة على هذا السؤال , من المؤكد أننا سنسمع من المصادر المختلفة إجابات مختلفة .
الموسوي أو اليهودي له روايته الخاصة .
والمسيحي له روايته الخاصة .
والمسلم له روايته الخاصة .
وربما كانت هناك رواية أو روايات أخرى هامة إلا أن ممثليها اختفوا عن المسرح , ولم يعد بوسعنا الاستماع إلى وجهة نظرهم , لكننا نستطيع تخمين ذلك من خلال الدراسة المتعمقة لميثولوجيا المكان أو حتى من خلال بعض التسريبات التي تضمنتها الرواية التوراتية أو حتى من الأسماء التي أعطيت لمدينة القدس . 

في الحقيقة أن هذه الروايات ككل ستتمحور حول جبل الموريا في القدس . والحقيقة أيضاً أن هناك رواية يمكن اعتبارها مشتركة بين الجميع وإن اختلفوا حول تفاصيلها , أو سيطر عليهم الميل إلى تجاهلها رغم أهميتها البالغة . بل وإن جميع الأطراف للأسف عملت على اختيار مسرح بديل لها .
الرواية اليهودية تحاول ربط قدسية المكان بوقائع ادعت حدوثها يمكن تلخيصها بما يلي : بعد أن أخذ داوود عليه السلام حصن صهيون – حسب روايتهم – بنى من حوله مستديراً وأسمى المكان مدينة داوود . وقد عمد إلى إحضار تابوت العهد ووضعه في خيمة على جبل صهيون . ثم أمر بإجراء إحصاء لبني إسرائيل , مما أثار غضب الرب عز وجل , فأرسل الملاك المهلك وقتل من بني إسرائيل 75 ألفاً . وحين عبّر داود عن ندمه , وطلب الرحمة , نزل الملاك المهلك ووقف على جبل الموريا عند بيدر أرونة أو أرنان اليبوسي .
 
وطلب الرب منه بناء مذبح في موقع البيدر . ففعل , ونزلت نار من السماء والتهمت االذبيحة علامة الرضى . فأيقن داود عليه السلام أن الرب رضي على هذا المكان وقرر بناء بيت للرب عليه , فطلب منه إرجاء ذلك ليتولاه ابنه , وهو ما فعله سليمان عليه السلام حين أنجز بناء الهيكل في ذلك الموقع . 

هذه القصة بطبيعة الحال لم يثبت للمؤرخين , ومعظمهم من التوراتيين , ما يثبت صحتها . ولكن بغض النظر عن صحتها , فإنها تنطوي على دلالات معينة : أولها بإقرارهم أن الرب نبذ صهيون واختار الموريا , لكن اليهود جعلوا من صهيون رمزاً لهم بل ويحاولون الادعاء بأن جبل الموريا هو جبل صهيون رغم تناقض هذا الادعاء مع نص الكتاب المقدس , وكون جبل صهيون يحتل التل الجنوبي الغربي من القدس . بطبيعة الحال , ينطوي التصور اليهودي في حد ذاته على الاعتقاد بأن الرب عز وجل يقيم داخل تابوت العهد الموضوع داخل قدس الأقداس في الهيكل . وهكذا , فإنهم بهذه القصة لا يؤكدون قدسية المكان في نظرهم فقط , بل يجعلون منه مكان إقامة للرب . وتبقى هناك إشكالية في الواقع , وهي أن هذه الرواية التي ربطت بداود عليه السلام تتجاهل رواية أخرى أقدم تعود إلى سفر التكوين , ويمكن أن تكون هي الأساس في تحديد مصدر قدسية الصخرة المشرفة أو جبل الموريا , وهو ما سنبينه في السياق . 

في الرواية المسيحية , فإنه بالإضافة إلى ما هو مأخوذ من " الكتاب المقدس / العهد القديم " فإن روح القدس تتجلى في السيد المسيح عليه السلام . 

وستكون جميع الأماكن التي يتجول فيها مقدسة , ذلك أنه يمثل – في حد ذاته – الظهور الإلهي , لكن الفصول الأهم في قصته ستقع على جبل الموريا في القدس . هنا سيمارس جهوده الأساسية في مواجهة الكهنة اليهود في الهيكل ومحيطه . وهنا سيقاد إلى الصلب ويصلب . وهنا سيدفن . ومن هنا سيقوم من الموت . لذلك , فإن الأماكن المقدسة في نظر المسيحيين ستشمل كل الأماكن التي شهدت وقائع قصته منذ الحبل بلا دنس وحتى قيامته .
بالنسبة للمسلمين , فإن المؤشر الأساسي – عدا عما يتعلق بما يؤمن به المسلم عن قصص الأنبياء السابقين – سيتمثل في الإسراء والمعراج [ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ] { الإسراء – 1 } . . 

هنا سيؤكد القرآن الكريم أن هذا الموضع المتمثل بالصخرة المشرفة على جبل الموريا هو موضع المسجد الأقصى , ولنا أن نقول إن المكان الأقصى بالنسبة إلى الأرض هو المكان الأدنى بالنسبة إلى السماء , لذلك كان الإسراء من مكة إلى القدس , ومن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليكون المعراج من المسجد الأقصى , وكان الاجتماع بالأنبياء السابقين في القدس . ولكن هل المسجد الأقصى المذكور هنا هو هيكل سليمان الذي تحدثت عنه الرواية اليهودية , أم أنه هيكل زربابل ؟ أم الهيكل الذي بناه هيرود ؟ أم أنه مسجد بني قبل هذه المعابد جميعاً ويعود إلى زمن أسبق بكثير وكان مثل المعابد الأخرى المذكورة جميعاً قد اعترته نوائب الزمن بحيث لم يكن قد بقي منه عند وقوع الإسراء والمعراج سوى مساحة من الأرض تملأها الأنقاض تشير إلى المكان ؟ . 

لن ندخل هنا في نقاش حول ما توصل إليه الآثاريون حول هيكل سليمان , وبالنسبة لنا فإن القرآن الكريم ذكر أن سليمان بنى محاريب بالجمع , ولم يذكر أنه بنى هيكلاً , بل إن اسم الهيكل لم يرد بين دور العبادة المذكورة في القرآن الكريم . بل إن القرآن الكريم يذكر أن داود عليه السلام كان يتعبد في محراب وليس في خيمة . وهذا ما نفهمه من نبأ القوم الذين تسوروا المحراب فخاف منهم , مما يعطينا صورة عن نمط المحراب تماثل تلك المعهودة عن محاريب الكنعانيين على المرتفعات . لكننا سنلتقي مع ذكر المحراب بعد زمن داود وسليمان بكثير في قصة النبي زكريا عليه السلام والسيدة مريم عليها السلام . فعن مريم في طفولتها يقول عز وجل [ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً ] {آل عمران – 37} . وعن زكريا يقول سبحانه وتعالى [ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ] { آل عمران – 39} . فما يتكرر إذن هو ذكر المحراب , وليس الهيكل الذي لم يرد له ذكر البتة . 

على كل حال , لا حاجة بنا للاستطراد في مناقشة هذه القصة . ولكننا بحاجة إلى العودة إلى الوراء لنرى الأحداث المفترضة في البدايات . 

في القصة التي يتفق عليها الجميع , وإن اختلفوا حول حيثياتها , يرد في التوراة القول : " إن الله امتحن إبراهيم فقال له : يا إبراهيم ! قال : لبيك . قال : خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق , وامض إلى أرض الموريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أريك " . لا حاجة بنا إلى أن نكمل القصة الواردة في التوراة حول واقعة الفداء الابراهيمي , فهي معروفة . ولكن لنا هنا ملاحظتان لا بد منهما :
أولا : أن الابن الوحيد لإبراهيم لا يمكن أن يكون سوى إسماعيل عليه السلام . وهذا ما يؤكده القرآن الكريم , إذ يجعل البشارة بإسحاق تأتي بعد واقعة الفداء الابراهيمي . 

ثانياً : إن القصة تعني بأن مدينة القدس لم تكن قائمة في زمن إبراهيم عليه السلام , وإلا لتحدد المكان على خلفية القرية أو المدينة , وليس على خلفية " أرض الموريا " و " جبل الموريا " . كما أن المكان لم يكن فيه مسجد أو معبد أو محراب ليقال لإبراهيم أن يتوجه إليه , وهي ملاحظة مهمة ولكن في مناقشة رواية توراتية أخرى لا نرى ضرورة تناولها في هذا البحث وهي قصة سيدنا إبراهيم مع ملكيصادق ملك وكاهن شاليم كما ترد في التوراة , إذ أن قصة الفداء الابراهيمي تنفي قصة ملكيصادق إلا إذا كان موقع شاليم غير موقع القدس . 

وإضافة إلىهذه الملاحظات , فإن هناك دلالة خاصة تحملها تسمية " أرض الموريا " . فالبعض يقول إن تسمية الموريا في اللغة الكنعانية تعني " المختار " . وهذا يعني أن اسمها كان يعني الأرض المختارة أي المباركة . وترد مرا في اللغة الآرامية بمعنى السيد , من مر بمعنى قوي . وهذه أيضاً دلالة تتعلق بشعب الأرض . ويرى ديل ميديكو أن الكنعانيين كانوا يميزون في جنوب بلادهم بين منطقة أمورو في شمال فلسطين " موريا الشمالية " وفلسطين نفسها التي كانت تحمل اسم " مريم " والتي هي موريا العهد القديم . ولعل هذا يعني أن سيدنا إبراهيم كان يقيم في موريا الشمالية حين طلب منه التوجه إلى أرض الموريا . وهناك من يرى أن اسم " مريم " إما من جذر آرامي يفيد المحبة أو العلو والارتفاع والشرف . وهناك من يرى أن هذا الاسم يعني بنت البحر . ولكنه لا يلبث أن يقول إن كلمة مار في السريانية تعني سيد , وبهذا فإن اسم ماري { مريم } قد يعني السيدة . 

أياً كانت الدلالة اللغوية للاسم , فإن السيدة مريم عليها السلام , حملت رمزياً اسم أرض الموريا أو ان اسمها عبّر عن الانتماء إليها . ولا نظن أن هذا حدث بمحض الصدفة , فأن تحمل مريم اسم البلاد الأصلي ربما جاء للتأكيد على أن هذا الاسم هو الأصل وليس اسم إسرائيل أو اسم يهوذا كما يدعي اليهود .
إن الأمر المنطقي المترتب على التجلي الإلهي لسيدنا إبراهيم عليه السلام من خلال افتداء ابنه إسماعيل بكبش سمين , يعني تكريس قدسية المكان الذي شهد الواقعة بالنسبة لأتباع سيدنا إبراهيم ممن آمنوا بدعوته على الأقل , ومن الواضح أن الإرادة الإلهية التي اختارت هذا المكان ليكون مسرحاً لهذه الواقعة كرست هذا الاختيار خلال التطورات الأساسية اللاحقة . 

وفي ضوء هذه الواقعة من الطبيعي الافتراض بأن من آمنوا بدعوة سيدنا إبراهيم حرصوا على تكريس الصلة بهذا المكان المقدس . ونحن هنا في الواقع نقف أمام تطورين أساسيين محتملين : 

أولهما : إيجاد مسجد في المكان هو الذي سيحمل عند المسلمين اسم المسجد الأقصى , أو سيبقى موقعه مهما تقلبت الأحوال والظروف موقعاً للمسجد الأقصى , مثلما استمرت الكعبة كعبة في مكة رغم كل التقلبات الدينية والسكانية التي طرأت على مكة . وربما كان على شكل المحراب الكنعاني أو على شكل كعبة بجدران أقل ارتفاعاً , وتحيط بالصخرة المشرفة . وبالنسبة للتقليد الإسلامي فإن الحديث الشريف يقول إن هذا المسجد بني بعد بناء الكعبة بأربعين . وافترض الباحثون أنها أربعون سنة . وبالتالي , فإن هذا المسجد وجد قبل الزمن المدعى لبناء هيكل سليمان بقرون طويلة , حتى وإن أخذنا بالزمن التوراتي المفترض لوجود سيدنا إبراهيم . لكن المعطيات ترجح أن سيدنا إبراهيم وجد حوالي العام 3150 ق .م وليس أوائل الألف الثاني ق .م . وأما داود وسليمان عليهما السلام , فإن الدراسة المدققة لما ورد حولهما في القرآن الكريم بشكل خاص تقودنا إلى وجودهما في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد , أي قبل الزمن التوراتي بألف سنة . 

ولعل ما يؤكد ذلك هي المكتشفات الآثارية في القدس , والتي تشير إلى سكن في وادي الجوز شمال القدس يعود إلى أواخر الألف الرابع قبل الميلاد , ثم عن نقاط سكن متفرقة في الأودية المحيطة بالقدس خلال الألف الثالث قبل الميلاد , بينما تشكلت القدس كمدينة مسوّرة على تلال الظهور – عوفل حوالي القرن الثامن عشر قبل الميلاد . 

أما الأمر الثاني : فإن قصة اعتزال سيدنا إبراهيم والذين آمنوا معه لقومهم , مثلما يؤكدها القرآن الكريم , ربما تضمنت اتخاذ منطقة القدس المنعزلة عملياً , والتي هي منطقة صخرية , معتزلا لهم أو لبعضهم . وهذه الدلالة تتفق مع دلالة اسم أورشليم عند من يقول إنها من كلمة شليو الكلدانية بمعنى التوحد والعزلة , مثلما تتفق مع وصف منطقة القدس في رسائل تل العمارنة بأنها متاتي أي أراضي أورشليم , وليست مدينة , بينما كان اسم المدينة – وفق تلك الرسائل – كيلة . وكيلة هذه تعني حرفياً الخفية . لكنها قد تعني مجازاً مدينة الإله الخفي كيلي / سيلي . وحتى تفسير اسم شليم باسم إله الغروب الكنعاني شلم يمكن أن يتفق – ولو جزئياً – مع هذه الدلالات . ويبقى أن دلالة الإله الخفي في حد ذاتها تقود إلى فلسفة الإيمان الابراهيمي , ذلك أن آلهة الكنعانيين وغيرهم من سكان البلاد مثل بعل وهدد ودجن لم تكن بالآلهة الخفية , وحتى إيل , فقد نظر إليه فقط على أنه يقيم في مكان بعيد عند منبع النهرين , لكنه جرى تصويره بشكل مجسم , مما يخالف أساس العقيدة الابراهيمية . 

ما هي هوية هؤلاء الحضارية ؟ 

سؤال قد يكون من الصعب الإجابة عليه . فربما كانوا كنعانيين أو أموريين أو آراميين . لكن منطقة القدس ومحيطها كانت على الأرجح وخلال الألف الثاني قبل الميلاد مسرح استقرار قوم عرفوا في أوروبا باسم الكلت , ووصفوا في التوراة بالعناقيين الرفائيين . والواقع أن توطنهم في فلسطين وفي محيط القدس بالذات واضح من تسمية وادي الكلت الذي ينبع من جبال رام الله – البيرة ويصب قرب أريحا ماراً إلى الشمال من القدس حيث يعتبر من أوديتها . وهناك واد آخر يحمل اسم وادي الكلت أيضاً يبدأ من منطقة الخليل ويمر في تخوم بلدة الدوايمة متجهاً نحو الغرب . عدا ذلك , فإن هناك موقع سليتا في نابلس وموقع تل السلتة في الخليل وموقع كفر سلت في وسط الضفة الغربية .
 
وفوق هذا وذاك فإن تسمية القرافيص التي يحملها اسم الجبل الذي يبدأ منه وادي الكلت الشمالي والقرافيص التي تطلق على نمط الزراعة في محيط وادي الكلت شمال القدس يؤكد الوجود السلتي في هذه المنطقة , كما أن هذه التسمية السلتية تحمل دلالة " الأرض المباركة " . مع ذلك علينا أن نفترض بأن هؤلاء السلت ربما كانت لهم عقيدتهم الدينية التي لا تتفق مع جوهر الإيمان الابراهيمي . ومثل هذا الاحتمال واجهته مكة أيضاً خلال تاريخها , ولنضف إلى ذلك أن الديانة اليهودية التي جرت محاولة فرضها في القدس لا تتفق مع جوهر الإيمان الابراهيمي أيضاً . 

السؤال الذي يمكن أن يطرح نفسه الآن ببساطة هو التالي : هل هناك ما يمنع منطقياً أن يكون النبي سليمان عليه السلام قد بنى هيكلاً على جبل الموريا في القدس هو بمثابة تجديد للمسجد الأقصى القديم المفترض ؟ 

وفي الجواب نقول إنه من الزاوية المنطقية لا شيء يمنع , بل وأكثر من ذلك كان من المنطقي أن يطلب من داود عليه السلام تأكيد قدسية المكان الذي شهد واقعة الفداء الإبراهيمي وقام عليه المسجد الأقصى الابراهيمي , وألا يسمح له بزحزحة هذا المكان ولو من تلة الموريا إلى جبل صهيون المجاور لها في محيط المدينة نفسها . أما من الزاوية الآثارية فإن الجواب واضح , وهو أنه ما من دليل . 

إن رواية التوراة عن بيدر أرونة أو أرنان اليبوسي تكفي وحدها في الواقع للتشكيك في أن تكون القدس هي مسرح الحدث , فما من أحد يتخذ من صخرة بيدراً , وما من أحد يزرع قمحاً في أرض صخرية لا تحرث . فإذا كان المكان الذي تتحدث عنه التوراة فيه حرث وزرع وبيدر , فلا بد وأن يكون هذا المكان بعيداً عن القدس التي نتحدث عنها . ولا يمكن أن يكون هذا المكان هو الصخرة المشرفة . 

ثم إن مواصفات هيكل سليمان كما وردت في التوراة ما كان من الممكن تنفيذها دون تهيئة مصطبة للهيكل على سطح التل مثلما هو حاصل اليوم . ومثل هذه المصطبة لا أثر لها . 

قد يقال هنا إن مدوني التوراة إما أنهم بالغوا في تحديد مواصفات الهيكل , أو أن ما بناه سليمان كان محرابا على غرار المسجد القديم المفترض , إلا أنهم تعمدوا تغيير المواصفات . 

ونقول هذا ممكن , ولكن كيف نحل المشكلة المترتبة على قول العالمة مارغريت شتاينر القائلة إنه لم تكن هناك مدينة في القدس في بداية العصر الحديدي ليحتلها داوود ؟ هل علينا أن نفترض أيضاً وجود مدينة بلا بيوت ولا سكان ؟ 

يتبع..

بقلم: عبد الرحمن غنيم
/ انتهى التحليل /
رقم : 288354
شارک بتعلیقک
الإسم الثلاثي

البريد الإلكتروني
تعليقك

أهم الأخبار
إخترنا لکم