0
السبت 26 شباط 2011 ساعة 23:21

الإمام السيّد موسى الصدر.. أضواء على محطّته اللّبنانيّة

الإمام السيّد موسى الصدر.. أضواء على محطّته اللّبنانيّة
الإمام السيّد موسى الصدر.. أضواء على محطّته اللّبنانيّة
ثمّ في العام 1960م قرّر الاستقرار نهائيّاً في لبنان، لما وجده فيه من ساحةٍ مشرّعة الأبواب أمام العمل النضاليّ والتبليغ الدينيّ، ولا سيّما بعد وفاة العلّامة شرف الدين الذي كان يشغل فراغاً كبيراً ويحظى بمكانة مميّزة في قلوب اللّبنانيّن عموماً، وأبناء القرى الجنوبيّة خاصّة، تلك القرى التي كان أهلها يكابدون الفقر والحرمان والإهمال والغياب التامّ لخدمات الدولة، فكانوا يراجعون الإمام شرف الدين، فيبلسم جراحاتهم، ويعمل على تطييب خواطرهم، وتحقيق مطالبهم ما أمكنه ذلك.. 

وإذ لم يكن من المقبول أن يبقى هذا المكان شاغراً، قرّر الإمام الصدر أن يتّخذ واحداً من أهمّ القرارات الصعبة في حياته، وهو أن يترك مسيرته العلميّة والدراسيّة في الحوزة العلميّة، بالرغم من أنّ كلّ الذين عرفوه، من أساتذته وتلامذته وأصدقائه، أجمعوا على أنّه لو بقي في النجف الأشرف لكان مرجعاً للطائفة وأحد أساطين التجديد في الفقه والفكر الإسلاميّ. 

غير أنّ السيّد موسى، ذلك العالم الرساليّ، وضع كلّ ذلك وراء ظهره، ليلبّي نداء الواجب، وليسكّن شيئاً من آلام المحرومين، ولو على حساب مستقبله الشخصيّ. 

وعلى أثر ذلك، شدّ رحاله إلى مدينة صور (بدعوةٍ من أهلها) ليقيم فيها ويمارس فيها وظائفه كعالم دين إسلاميّ خلفاً للسيّد شرف الدين (الذي كان يوحي قبيل وفاته بجدارة السيّد موسى لأن يخلفه في مركزه بعد موته).. وهناك، اقتحم الإمام الصدر بشجاعته المميّزة وحكمته الفذّة وأسلوبه الخاصّ ميادين العمل الديني والسياسي والاجتماعي في لبنان.. 

فقد وسّع نطاق الدعوة والعمل الديني من خلال محاضراته وندواته وزياراته الكثيرة التي أجراها في مختلف قرى جبل عامل. وضمن حركة الرعاية الدينيّة التي نهض بها، أعاد الصدر هيكلة جمعية البرّ والإحسان التي كان أسّسها السيد شرف الدين، وعمل على إنشاء مؤسّسات عامة تعنى بالشأن التربوي والمهني والصحّي والاجتماعي والديني، حتى سُجِّل له النجاح في القضاء على ظاهرة التسوّل والتشرّد التي كانت متفشّية آنذاك في أزقّة مدينة صور وشوارعها، كما ركّز في خطاباته هناك على شدّ أواصر الإخاء بين المواطنين على اختلاف طوائفهم. ومن إنجازاته تسليط الضوء على دور المرأة، وضرورة مشاركتها في الحياة العامة، ولذلك أقام دورات لمحو الأمية وغيرها من النشاطات. 

وسرعان ما امتدّت زياراته تلك إلى قرى منطقة (بعلبك ـ الهرمل)، متحسّساً مع أهلها ما يعانونه من التخلّف والحرمان. ليجول لاحقاً على باقي المناطق اللبنانية، متعرّفاً على أحوالها عن كثب، محاضراً فيها، حريصاً على إنشاء علاقات مع مختلف فئات المجتمع اللبناني وطوائفه، وداعياً إلى نبذ التفرقة الطائفيّة والمسلكيّات العنصريّة التي هي برأيه أمّ الآفات الاجتماعية وأساس الفساد والإلحاد. 

ولم تقتصر جولاته على الداخل اللّبنانيّ، بل كان له العديد من الأسفار إلى بلدان عربية وإسلامية وإفريقية وأوروبية، تفقّد فيها أحوال الجاليات اللّبنانيّة والإسلاميّة، وألقى العديد من المحاضرات التي أصّل فيها للفكر الإسلاميّ، مبدياً قدرة الإسلام على مواكبة واحتضان الواقع الحديث، وضرورة اعتماد القوانين الإسلاميّة لتنظيم الحياة المعاصرة.
وبعد دراسات واستشارات وتحركات مكثّفة، وبعد وقوفه تفصيلاً على أحوال الطائفة الإسلاميّة الشيعيّة ومناطقها ومؤسّساتها في لبنان، ظهرت له الحاجة إلى تنظيم شؤون هذه الطائفة، وذلك بالنظر إلى نظام الطوائف الدينيّة الذي يعتمده لبنان، حيث كان لكلٍّ من الطوائف الأُخرى تنظيم يخصّها. فأخذ يدعو إلى إنشاء مجلس يرعى شؤون هذه الطائفة، ويرفع الغبن اللّاحق بها. 

ومع أنّ دعوته هذه (والتي استمرّ فيها لسنوات) لقيت معارضة شديدة من بعض الزعماء السياسيين في الطائفة ومن بعض القوى خارجها، إلّا أنّه استطاع أن يحصد إجماع نوّاب الطائفة الشيعة ليقرّ مجلس النواب اللبناني قانون إنشاء (المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى) في العام 1967م. 

وفي العام 1969م انتخب الإمام الصدر رئيساً لهذا المجلس، وصار يُعرف بلقب (الإمام). 

وفي خطابه الأوّل بعد تولّيه رئاسة المجلس رفع الإمام الصدر لواء الدعوة والعمل، ووجّه دعوات لتوحيد الشعائر الدينيّة بين المذاهب الإسلاميّة، ودعا للوحدة الوطنية، وحذّر من الخطر الصهيوني المتزايد، وأكّد دعمه للمقاومة الفلسطينية وضرورة المشاركة الفعلية مع الدول العربية الشقيقة لتحرير الأراضي المغتصبة، كما دعا للعدالة والمساواة بين طوائف لبنان ومناطقه. 

وعلى خلفيّة اعتداءات الصهاينة عند الحدود الجنوبية للبنان، قاد الإمام الصدر حملة طالب فيها السلطات اللّبنانية بتحصين القرى الحدوديّة وتسليح أبناء الجنوب وتدريبهم للدفاع عن أراضيهم وتنفيذ مشاريع إنمائية في المنطقة، وذلك إلى جانب قيامه بحملة توعية حول الأخطار التي تهدد الجنوب مع دعوة المواطنين لعدم النزوح من قراهم الحدوديّة ولمجابهة الاعتداءات الاسرائيليّة. 

وتحت تأثير هذه الحملة، اتخذت الحكومة اللّبنانية قراراً بوضع خطة عامة لتعزيز أوضاع منطقة الحدود الجنوبية.
وفي 12/5/1970 عمد العدوّ الصهيونيّ إلى قصف القرى الحدودية الجنوبيّة، وألحق خسائر جسيمة بأرواح المواطنين الأبرياء وممتلكاتهم، وتسبّب بنزوح أكثر من خمسين ألف مواطن من ثلاثين قرية حدودية، ما دفع بالإمام الصدر بالدعوة إلى إضراب وطني سلمي شامل لمدة يوم واحد من أجل الجنوب، وتجاوب كل لبنان مع هذه الدعوة، واعتبر حدثاً وطنياً كبيراً. 

ومع استمرار الاعتداءات الاسرائيلية على جنوب لبنان في سنة 1971وما يليها، استمرّ الامام الصدر حاملاً لواء الدفاع عن هذه المنطقة، ومعلناً أنّ انهيارها يعني انهيار كلّ لبنان، ومؤكّداً مطالبته بالتجنيد الإجباريّ وتعميم الملاجئ وتحصين القرى وتأمين وسائل الدفاع الحديثة لمواجهة العدوان الصهيونيّ المتواصل. مطالباً السلطات اللّبنانية آنذاك بتنمية المناطق المحرومة وإلغاء التمييز الطائفيّ وإنصاف المسلمين الشيعة في المناصب الوزاريّة والوظائف العامّة وموازنات المشاريع الإنمائيّة. 

وبعد سنوات من المطالبة والسعي لم توافق السلطة على عددٍ من مطالب الإمام الصدر فبدأ العمل الميدانيّ، بغية تعبئة الجماهير، وصعّد حملته بمهرجانات شعبيّة عارمة كان أضخمها مهرجان بعلبكّ بتاريخ 17/4/1974م، ثمّ مهرجان صور بتاريخ 5/5/1974م. 

وفي غمرة تلك الأحداث، أعلن سماحته عن تأسيس (حركة المحرومين) راسماً مبادئها بالقول:
(إنّ حركة المحرومين تنطلق من الإيمان الحقيقيّ بالله والإنسان وحرّيّته الكاملة وكرامته، وهي ترفض الظلم الاجتماعيّ، ونظام الطائفيّة السياسيّة، وتحارب ـ بلا هوادة ـ الاستبداد والإقطاع والتسلّط وتصنيف المواطنين، وهي حركة وطنيّة تتمسك بالسيادة الوطنيّة، وبسلامة أرض الوطن، وتحارب الاستعمار والاعتداءات والمطامع التي يتعرّض لها لبنان). 

وفي تلك الأيّام بلغت الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب ذروتها، ولم تقم السلطات المسؤولة بواجبها الدفاعي عن الوطن والمواطنين، ما دعا الإمام الصدر إلى تشكيل جناح عسكريٍّ لحركة المحرومين بهدف مواجهة العدوان الصهيوني على لبنان، داعياً إلى تشكيل مقاومة لبنانيّة تتصدّى للاعتداءات الصهيونيّة على لبنان، والمؤامرات الهادفة إلى تشريد اللّبنانيين من أراضيهم، معتبراً أنّ (الدفاع عن الوطن ليس واجب السلطة وحدها، وإذا تخاذلت السلطة فهذا لا يلغي واجب الشعب في الدفاع). 

وفي عزّ عطائه وذروة نشاطه اندلعت فتنة الحرب الأهليّة اللّبنانية التي لم تميّز بين لبنانيٍّ وآخر، فبادر الإمام إلى بذل المساعي والجهود للتوسّط لدى الأفرقاء لوأد الفتنة وتهدئة الوضع، محذّراً من مخطّطات العدوّ ومؤامرات الفتنة، وقام لهذه الغاية بتأسيس عدة لجان وتنفيذ اعتصامات عديدة، كان منها: اعتصامه بتاريخ 27/6/75 في مسجد الصفا (الكلّيّة العاملية) ببيروت، متعبّداً وصائماً، معلناً: أنّ الهدف من اعتصامه هذا هو أن يفرض على المواطنين الاعتصام عن السلاح الذي يستعمل ضد اللّبنانيين والأخوان، قائلاً: إنّنا نريد أن نخنق صفحة العنف بصفحة العبادة والاعتصام والصيام.. ولم يُنهِ اعتصامه هذا إلّا بعد أن تلقّى وعداً بتبنّي المطالب المطروحة والعمل على تنفيذها.
ولنا موعد آخر مع حادثة اختطافه وتغييبه.....


/ انتهى المقال /
كاتب : علي محسن
رقم : 56525
شارک بتعلیقک
الإسم الثلاثي

البريد الإلكتروني
تعليقك

أهم الأخبار
إخترنا لکم